في صيف 2021 وصل إلى ساحل العاج وكيل لاعبين أذربيجاني يدعى نائل زينالوف. بدا من ملامحه ونظارته أنه جاد وصادق. طاف بأكاديميات أبيدجان ورأى لاعبيها وتفحصهم، ودعا لاختبارات تؤهل مجتازيها للاحتراف بأوروبا.
احتشد لتلك الاختبارات المئات من الشباب الإيفواري، الحالم بأن يخرج من بينهم يايا توريه أو دروجبا جديد. واجتاز تسعة منهم الاختبارات. أخبرهم نائل بوجهتهم المنتظرة، وهي أحد الأندية في تركيا. قبل أن تتحول الوجهة إلى أوكرانيا وكان ذلك قبل الحرب ثم روسيا ثم أذربيجان ثم جورجيا، وفي النهاية مولدوفا.
باع اللاعبون وأهلوهم في سبيل ذلك أثمن ما يملكون، ومن كان معدماً تماماً اقترض المال بعزم على إرجاعه في أقرب فرصة. أما اللاعبون التسعة فقد رضوا بالهم فعلاً، لقاء الحصول على عقد في أي دولة أوروبية من تلك الدول، تتيح لهم الظفر بمرتب أسبوعي أو شهري لإعالة أسرهم الفقيرة في الوطن وسد ديونهم.
لكن الهم لم يرض بهم ولم يمنحهم تركيا ولا مولدوفا، وإنما استقر بهم الحال في نادي دينامو أوتو في ترانسنيستريا. وهي جمهورية غير معترف بها قد انفصلت عن مولدوفا في أوائل التسعينيات. وهنا أحس الشباب بشيء ما: لقد كان كل الأمر برمته خدعة كبيرة.
وفقاً للمؤسسة الخيرية الفرنسية «كرة القدم التضامنية - Foot Solidaire» التي تعمل على خلق بيئة مواتية لشباب اللاعبين ليحصلوا على فرص عادلة في عالم كرة القدم؛ فإن أكثر من 6 آلاف شاب أفريقي يدخلون إلى أوروبا سنوياً. لغاية وهدف واضح ومعلن وهو الحصول على عقد احترافي لممارسة كرة القدم. وهو جزء من مجموع هجرات الشباب الأفريقي من سن 16 حتى 21 سنة، حول العالم من أجل ذلك الغرض تحديداً.
ذلك الغرام الشديد باللعبة لا يعود بالنفع دوماً على أولئك الشباب الحالم، وخصوصاً في غرب القارة. بل أصبحت الرغبة في استنساخ مسيرات حافلة للاعبين عظام، إضافة للعطش الشديد للهجرة والحاجة الملحة للنزوح من أوضاع الفقر والبطالة والتردي، المغذي الأول لمطامع كثير من وكلاء اللاعبين الحقيقيين والمزيفين، الذين يعملون في شبكات مريبة تشبه تلك التي تستخدم في الاتجار بالبشر، سواء داخل القارة وخارجها.
يضم كتاب «هجرة كرة القدم الأفريقية: الطموحات والتجارب والمسارات» قصصاً لا تنتهي على منوال قصة الشباب الإيفواري آنفة الذكر. التي رغم مأساوية تفاصيلها التي نشرت في تقرير استقصائي في مجلة «The Economist» لا تعد حدثاً نادراً حين يتعلق الأمر بالشباب الأفريقي والهجرة الكروية.
من بين قصص الكتاب لاعب يدعى إسحاق. في 2012 كان إسحاق أحد المواهب في منتخب غانا تحت 17 عاماً. استغل أحد الوكلاء جهله بالثقافة الكروية في آسيا وأقنعه بتسهيل سفره إلى تايلاند حيث يمكنه الالتحاق بأحد أنديتها التي تعد مصدر إمداد دائماً لكبرى الدوريات الأوروبية.
وضحية أخرى هو الشاب المالي أبو بكر سيديبي الذي كان حلمه أن يلعب في نادي تشيلسي. وتلقف ذلك الحلم أحد الوكلاء وأقنعه أن الطريق إلى إنجلترا يمر بمستعمراتها في الهند. ومن هناك ستلتقطه عيون الكشافة الإنجليزية؛ ليجد الشاب نفسه في ملعب ترابي في نيبال.
غير أن تلك الحيل الكاذبة لا تكتشف إلا وقد قطع أولئك الشباب بالفعل تذكرة دخول عالم الكرة الاحترافي، ودفعوا ثمنها آلافاً من العملات الصعبة، بالدولار أو اليورو. ليجدوا أنفسهم في غرف قذرة وضيقة في فنادق رخيصة أو سيئة السمعة، ومجبرين على مواجهة واقع لا تلوح فيه أي ممارسة احترافية لكرة القدم إلا كحلم خيالي.
في الفيلم المصري «الرهينة» يحلم مصطفى يوماً بعد يوم بالسفر إلى أوكرانيا. حيث الجار ورفيق الطفولة عمدة، الذي هاجر وبنى نفسه بنفسه وتحقق حتى صار صاحب أكبر بزار في أوكرانيا. لكن مصطفى يصدم من إفلاس صديقه أولاً، ثم من المنطقة التي يسكنها، والتي لا تختلف كثيراً عن مساكن العشوائيات وأطراف المدن في مصر، ثم تأتي الصدمة الكبرى حين يكتشف مصطفى أن التحقق محض هراء وكذب؛ فعمدة لا يمتلك سيارة دفع رباعي ولا ثنائي حتى، وأكبر بزار في أوكرانيا لا يعدو كونه «فرشة» بسيطة كمثيلاتها في سوق الجمعة.
بذات الطريقة التي أغرت بها صورة عمدة المتحقق صاحب السيارة والبزار صديقه مصطفى ودفعته للسفر؛ لا تزال الصورة الذكورية النمطية عن لاعب كرة القدم الأفريقي المستقل المتحقق، الذي يعول أسرته ومجتمعه الصغير مادياً، تغري كثيرين من الشباب الأفريقي بنفس المسار وتعزز لديهم تلك المشاعر.
يمثل اللاعبون الأفارقة بالفعل نسبة تصل إلى 6% من إجمالي عدد اللاعبين في أعلى 11 دورياً أوروبياً وفقاً لإحصائية موقع «Football Benchmark». ووفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية «BBC» فإن 260 مليون مواطن أفريقي يتابع الدوري الإنجليزي الممتاز. من بينهم مئات الآلاف الراغبين في سلك طريق الهجرة. لكن نسبة ضئيلة منهم يتاح لها القدرة التقنية والمادية على فعل هذا الأمر.
ولا تعني الهجرة ضمان الوصول للدوريات الكبرى والترقي فيها. بل ينشط السواد الأعظم من أولئك الشباب في الدرجات الدنيا من الدوريات الأوروبية الضعيفة، مثل الدوري البولندي.
في إطار اهتمامه بأوضاع اللاعبين الأفريقيين في أوروبا، أجرى باول بانس المتخصص في علوم الأنثروبولوجيا في جامعة أمستردام، دراسة ميدانية عن أحوال شباب اللاعبين الأفارقة في الدرجات الدنيا من الدوري البولندي.
وجد بانس أن الأوضاع المادية للاعبين الأفارقة في بولندا، يحددها عاملان أساسيان. وهما: المنطقة الجغرافية أو الدرجة التي ينشط فيها اللاعب، وطول مكثه وإقامته في البلد. في حين يحصل المحظوظون من أولئك اللاعبين راتباً يقترب من متوسط الدخل في بولندا، الذي كان يبلغ عام 2016- وقت نشر الدراسة- 1070 دولاراً؛ يتقاضى البقية راتباً أقل من الحد الأدنى للأجور، ويلعب بعضهم بلا رواتب. فقط بعض المكافآت في حالة الفوز. ويتعين على الغالبية العظمى منهم البحث عن وظيفة أساسية بدخل ثابت.
طوال عقد كامل، لم يخرج من تلك الدوريات الدنيا إلا لاعبان أفريقيان فقط إلى الدرجات الأولى من الدوريات الأوروبية. أحدهما إلى الدوري التركي والآخر إلى الدوري السلوفاكي. أولئك هم الأسعد حظاً من بين الآلاف عبر أوروبا الذين يضطرون إلى البحث عن مهن أخرى وينسون حلمهم الأول بالأساس.
لكن المعاناة تعرف أهلها، وترفض أن تفارقهم هنا أيضاً.
يدرك اللاعبون الأفارقة أن طريقهم لن تكون معبدة في سبيل الوصول إلى ما يصبون إليه من التحقق الكروي، الذي يمكنهم من تبني النموذج المتعارف عليه عن اللاعب الأفريقي المحترف في أوروبا، الذي يمثل طوق نجاة للعائلة بأكملها.
مع زيادة حركة الهجرة الأفريقية الكروية نحو أوروبا، أجرى إيكيتشوكو إيجيكوومادو، الباحث في معهد علوم الرياضة بجامعة توبنغين الألمانية، دراسة تعرض فيها بصورة أساسية للعقبات التي يواجهها اللاعبون الأفارقة المحترفون في البوندسليغا.
وعلى قدر ما أوهمت العولمة البشر بأن العالم أصبح قرية صغيرة، وأن الفوارق اللغوية والاجتماعية والثقافية أصبحت محض هراء؛ يرى اللاعبون الذين شاركوا في تلك الدراسة والذين لم يفصحوا أسماءهم، عكس ذلك تماماً عطفاً على واقعهم المعيش.
تظهر اللغة كأول العوائق، ويجد أولئك اللاعبون أنفسهم بلا طرق فعالة لفهم الآخر والتواصل معه. لا سيما وإن كان هذا الآخر هو المدرب والزملاء، وإن كان التوصل من أجل التقييم وسرعة التعلم في بيئة تنافسية لا ترحم.
يرتبط باللغة مجموعة من المشاكل الأخرى، كالإحساس العميق بالوحدة، النابع بشكل أساسي من صعوبة التواصل. وكذلك أيضاً من طبيعة كثير من المجتمعات الأوروبية كالمجتمع الألماني تحديداً الذي تغلب فيه العملية والصرامة على الحياة الاجتماعية الحافلة. وهناك المشكلة الكبرى التي ينعكس تأثيرها بشكل مباشر على الأداء، وهي الفرق الحاد بين المناخ الأفريقي الدافئ ومناخ أوروبا البارد الذي يجعل الحركة أكثر صعوبة لغير المعتادين عليها.
وأخيراً، فإن النظرة المجتمعية للمهاجر الأفريقي في المجتمعي الأوروبي، تجعله أكثر التصاقاً بثقافة العمل المضاعف، والكد الذي لا يتوقف؛ حتى يصير المهاجر الأفضل. بينما يتاح لأبناء البلد أن يكونوا متوسطين على أحسن الأحوال، دون أن ينزعج أحد من ذلك.